بقلم د. حسن صنع الله

 

ملامح صدام نتنياهو مع الدّولة العميقة داخل المؤسّسة الاسرائيليّة

 

يذهب البعض إلى أنّ تاريخ الدّولة الإسرائيليّة العميقة يعود الى أيام بن غوريون، عندما كان الشاباك جهاز الأمن الداخلي يعمل-وفقاً للنّموذج المألوف في أوروبّا الشرقيّة-كشرطة سرِّيَّة لحماية الحزب. ويرى آخرون أنَّ المؤسّسة الإسرائيليّة ليست بِدْعًا من الدُّوَل، فالدّولة العميقة موجودة فيها، وهؤلاء يرون أنّ الدّولة والسّوق الخاصّ، والعالم السُّفلي، تجمع بينها أجهزة المخابرات. ويزعم هؤلاء أنّه في نهاية المطاف، غالباً ما تكون أنشطة أجهزة الاستخبارات إجراميّة. فهذه الاجهزة تحصل على إذن من الدّولة لخرق القانون لحماية الدّولة ممّا يُسمّى الأعداء الخارجيّين والداخليّين. ففي الحالة التّركيّة للدّولة العميقة أيام الحرب الباردة، وبإيعاز أمريكي، شَكَّل العالم السفلي والقوميّون جزءاً من التّرسانة التي نشرتها أجهزة الاستخبارات.

 

وفي فترة الحرب الباردة وبسبب التّخوّف الأمريكي من المدّ الشّيوعي، تم تسليم إيطاليا فعليًّا إلى الدّولة العميقة، حيث قام نظام متشعب من الاتّصالات بين أجهزة المخابرات والقضاة الفاسدين ومصرفيّي المافيا والمافيا والفاتيكان والماسونيّين الأحرار بتنشيط "استراتيجيّة التّوتّرات" من الستّينيّات إلى الثّمانينيّات من القرن العشرين، وشنّوا حملة إرهاب كاملة كان هدفها تخويف السكّان الإيطاليّين من التّصويت لصالح الأحزاب اليساريّة. وفي شرح موجز عن أنشطة الدّولة العميقة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، والتي تم تفعيلها من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزيّة، فإن أشهر هذه الحالات كانت عملية COINTLPRO التي قام بها مكتب التّحقيقات الفيدرالي، والتي هدفت إلى تعقُّب نشطاء حقوق الإنسان ومحاولة تعطيل أنشطتهم.

 

هناك العديد من نظريّات المؤامرة حول الدّولة العميقة داخل المؤسّسة الاسرائيليّة والتّآمر على نتنياهو وحلفائه في الائتلاف، وخصوصًا بعد أحداث السّابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، ولقد جاءت تصريحات "بن غفير" الّتي تطالب نتنياهو بوضع خط أحمر لرئيس جهاز الأمن الدّاخلي رونين بار، ليعبّر عن صراع أكبر بين نتنياهو وائتلافه من جهة، وبين ما يُسمّى بالدّولة العميقة المتمثّلة بثالوث المؤسّسات الأمنيّة، الجيش وجهازي الاستخبارات الداخليّة والخارجيّة الشّاباك والموساد، بحسب ما تدّعيه منافذ إعلاميّة متماهية مع تيّار الصهيونيّة الدّينيّة. والواضح أنّ هناك تباين في آراء المحلّلين حول من يملك الأدوات الأقوى لحسم المعركة في صراع القوى الدّائر بين كلا الفريقين.

 

في ولايته السادسة (بدأت عام 2022) كرئيس وزراء الحكومة الإسرائيليّة سعى نتنياهو إلى احتواء الجهاز القضائي لصالحه، وحاول قصقصة أجنحة الدّولة العميقة داخل المؤسّسة الإسرائيليّة، حيث عمل على إحداث انقلاب ناعم داخل المؤسّسات الأمنيّة من خلال إجراء تغييرات جوهريّة داخل منظومتها القياديّة ذات الطّابع العلماني لصالح تيّار اليمين المتطرّف والصّهيونيّة الدينيّة. وقد اتهم نتنياهو قادة  الأجهزة الأمنية العلمانيّين بمحاولة إقصائه من المشهد السّياسي، من خلال تلفيق ملفّات قضائيّة ضدّه بتهم الفساد. ومن ناحية أخرى اتّهمت  الأجهزةُ الأمنيّة نتنياهو بتجاهل تحذيراتها، بسبب اعتقاد نتنياهو ومن حوله أنّ هذه الأجهزة تتآمر عليه لإقصائه وحلفائه من المشهد السّياسي.

على مدار عقدين من الزّمن سعى نتنياهو إلى إنهاء احتكار المنظومة القياديّة لهذه الأجهزة الأمنية من قبل العلمانيّين، وذلك من خلال تركيزه وحلفائه على أهمّ مؤسّستين يعتقدون أنهما تشكلان مصدر تهديد لمستقبله السّياسي ومستقبل حلفائه في التيّار الصّهيوني الدّيني. لذلك كان أوّل استهداف من قبل نتنياهو وحلفائه للمؤسّسة العسكريّة، حيث سعى جاهدًا إلى تغيير القيادات العلمانيّة النّافذة داخل هذه المؤسّسة بموالين له ولتيّاره السّياسي، كما وعمل على إبعاد هذه المؤسّسة عن التّأثير في الحياة السّياسيّة أو حتّى التّدخّل فيها، كما وعمل على إضعاف الموالين للجيش داخل أجهزة الأمن الأخرى. ومن أجل تحقيق هذا المبتغى ركّز نتنياهو على تعيين قيادات داخل الجيش من مستوطنات الضّفّة الغربيّة والقدس، وهي المناطق التي يتمتّع فيها التيّار الدّيني بقاعدة صلبة كبيرة جدًا. وعليه، عيّن من داخل هذه القاعدة الصّلبة الموالية له بدائلَ للقيادات العسكريّة العلمانيّة، وقد نجح نتنياهو بتعيين مستوطنٍ في الضّفّة الغربيّة كقائد للمنطقة الوسطى داخل الجيش، كما ونجح في تعيين العديد من قادة الفرق العسكريّة المنتمين للتيّار الدّيني، جُلُّهم من مستوطنات الضّفّة الغربيّة.

 

على المستوى الأمني نجح التيّار الدّيني اليميني المتطرّف في اختراق جهاز الشّرطة، إلّا أنّ المواقع القياديّة الحسّاسة في جهازي الشّاباك والموساد بقيا عصيَّيْن على موالي تيار الصهيونيّة الدينيّة. ومن هنا يُفهم سرّ هجوم نتنياهو وحلفائه المتكرّر على هذين الجهازين.

 

لقد نجح نتنياهو من خلال سيطرته على الجيش أحد أدوات الدّولة العميقة  في إطالة أمد الحرب لصالح حساباته وأجنداته السياسيّة، ونجح في تكريس هذه الحرب للهروب من الملاحقات القضائيّة وملفّات الفساد التي ينتظر المحاكمة فيها، لأنّ إنهاء الحرب يعني بالضرورة إنهاء مسيرته السياسية. ويرى البعض أنّ محاولة نتنياهو السيّطرة على الدّولة العميقة تهدف إلى ضمان حصانة قانونيّة له من المحاكمة ودخول السّجن بتهم الفساد.

 

المشهد السياسي الإسرائيلي في الوقت الرّاهن مليء بالتّجاذبات وتبادل الاتّهامات، حيث يحاول كل فريق تحميل الآخر أسباب الفشل الاستراتيجي في الحرب على غزّة، والفشل في تحقيق أهدافها. وقد يدفع الفشلُ الاستراتيجي نتنياهو إلى فتح حرب شاملة في المنطقة قد تتورّط فيها قوى إقليميّة. والعديد من المحلّلين وجنرالات الاحتياط أمثال يتسحاك بريك يتّهمون نتنياهو والقيادة العسكريّة بتضليل الجمهور لعدم اعترافهم بالفشل في تحقيق الهدف الأساس من الحرب، وهو القضاء على حماس، مدّعين أنّ كل يوم يمرّ من الحرب يعمّق عزلة المؤسّسة الإسرائيليّة، ويزيد من انهيار الاقتصاد وتعميق الخلافات الداخليّة وزيادة العبء على قوّات الاحتياط. وممّا لا شكّ فيه أنّ ما بعد الحرب سيكون أصعب على نتنياهو من الحرب نفسها.