بقلم أ. يوسف كيال
أيا صوفيا وأمانة الإنصاف
تباينت ردود الفعل محلياً وإقليمياً وعالمياً على قرار المحكمة العليا في تركيا القاضي بإلغاء قرار مجلس الوزراء برئيسه آنذاك كمال أتاتورك سنة 1934 بتحويل مسجد أيا صوفيا الى متحف، وبالتالي إعادته الى وضعه الأصيل والطبيعي كمسجد .
وصدر أخيراً قرار المحكمة بإعادة الوضعية الأصلية للمسجد وفق الأدلة والحقائق المستندة إلى وثيقة شراء السلطان محمد الفاتح للكنيسة من الرهبان من خالص ماله، ثم أوقفها السلطان مسجداً، والوثيقة مازالت محفوظة إلى يومنا هذا.
من الطبيعي جداً أن يُقرأ الحدث بأنه أمر قضائي صرف، أي في سياقه الصحيح ويتم التعاطي معه بصورة موضوعية بحيث أنه يعبّر عن نزاهة القضاء ويستوجب احترامه والتسليم به كونه صادرًا عن محكمة في دولة تتمتع باستقلال قضائها واحترامها لنظامها القضائي وقوانينها .
هذا هو رد الفعل الطبيعي المتوقع من العالم الحر و"المتحضر" الذي يحترم القوانين والمنظومات القضائية النزيهة للدول الديمقراطية، ولكن للأسف وبصورة مفاجئة أثار هذا القرار بعض ردود الفعل الصادمة والمتطاولة سواءً محلياً وإقليمياً وحتى دولياً بادعاءات مختلفة ليست ذات صلة بالإجراءات الاحتلالية للمسجد الأقصى، يُقصد منها صرف انتباه البسطاء إلى تفسيرات غير منطقية، هذا بالتالي يترك المشاهِد للأحداث والقارئ العادي لها في حيرة وتخبط وسط مغالطة وتفسيرات غير منصفة للحدث ومآلاته، مما يستوجب بالتالي توضيح بعض الحقائق بهدف الحفاظ على الأمانة التاريخية والوطنية توضيحًا موضوعيًا وشفافًا.
أيا صوفيا ومع بنائها كصرح مميز بجماله و مزيناً بالفسيفساء والذهب، فقد كان الامتهان والحط من مكانة هذه "الكنيسة" عندما دخل الصليبيون إلى القسطنطينية سنة 1204 فعاثوا فيها فسادًا يومها ونهبوا الكنائس واغتصبوا النساء ودنسوا أيا صوفيا واستولوا على كنوزها وخربوا أجزاء منها وبقيت خرابا 249 سنة، وحدث ولا حرج عن جرائم الكاثوليك بأهلها الأرثوذكس، إلى أن جاء محمد الثاني وفتحها عنوةً، ومع ذلك اشترى الكنيسة وأحسن إلى أهلها ورهبانها، فلا تتعجب عندما تسمع رد بطريرك القسطنطينية على الإمبراطور عندما طلب الدعم من بابا روما قائلا: "أفضّل أن أرى عمائم الترك تجوب المدينة على أن أرى القبعة اللاتينية - أي الكاثوليك" ، كما ذكر ذلك مؤرخون غربيون..
عندما دخل السلطان محمد فاتحاً القسطنطينية اشترى أيا صوفيا والأراضي المحيطة بها من حر ماله ورفض أن يدفع ثمنها من بيت مال المسلمين وأوقفها مسجداً إلى يوم القيامة وكتب في ذلك وصيته المشهورة والتي جاء فيها أنه يشهد الله على وصيته ويجعل اللعنة على من يحاول بصورة مباشرة أو غير مباشرة تغيير حقيقتها واستمر المسلمون يصلون في أيا صوفيا من عام 1453 إلى عام 1931 ، فمنع أتاتورك الصلاة فيه، ثم حوله إلى متحف سنة 1934 ، من هنا تثيرنا الدهشة من الذين تطاولوا بغير حق على تركيا التي يعيش فيها النصارى وكنائسهم بأمن وأمان، ويعمون أبصارهم وتخرس ألسنتهم عن الانتهاكات بحق مساجدنا وأوقافنا في أوروبا الشرقية والغربية عامة وفي فلسطين خاصة، والقائمة طويلة بأعداد وأسماء أماكن العبادة والمقابر الإسلامية التي تم انتهاك حرمتها وتم تحويل آلاف المساجد إلى حانات وإسطبلات ومخازن ومعارض ابتداءً من فلسطين مروراً بأوكرانيا والبلقان واليونان ووصولاً إلى إسبانيا، ويكفي أن نذكر أنّه في أثينا لا يوجد مسجد واحد للمسلمين لإقامة الصلاة فيه ويضطر المسلمون للصلاة في الساحات العامة أو القاعات الخاصة، وعلى مدى التاريخ تم في اليونان طمس معالم ما يزيد عن 4000 مسجد وصرح إسلامي .
وللأمانة التاريخية أيضا وإيقاظاً للغافلين وتنويهاً للمتحضرين فإني أُرجعهم إلى تقرير صحفي للصحفي "يلدياري اوغورفان" نُشر في موقع ميدل إيست آي في تموز 2020 يذكر أن أتاتورك قام بإعطاء عميل ال CIA الشاذ "المتدين" ثوماس وتمور تصريحاً للكشف عن الفسيفساء والنقوش الموجودة في أيا صوفيا سنة 1931، وبصورة مفاجئة ممهداً بذلك الطريق لتحويل المسجد إلى متحف بهدف إرسال رسالة تطمين للغرب على علمانية وسلمية الدولة .
وأكمل المشوار خليفته الجنرال عصمت أنونو ، وبعدهما حزب الشعب الجمهوري، حيث قام بشن حملة تحت عنوان " مشكلة الجوامع في تركيا "، فكان سن القانون الذي تم بموجبه تدمير المساجد وبيع الأراضي التي كانت مقامة عليها وتحويل كثير منها الى إسطبلات ومخازن وسجون وبارات، وكل هذا على مسمع ومرآى الغرب "المتحضر" ومباركته ودعمه، وبالمقابل لا زالت صفحات التاريخ تسجل كلمات الفيلسوف اليوناني والمؤرخ جورج ترابيز ونتيوس بعد فتح القسطنطينية بعقدين للسلطان محمد الفاتح " مقر الإمبراطورية هو القسطنطينية، لذلك أنت الإمبراطور الشرعي لليونان...." شاهداً بذلك على سماحة وعدل محمد الفاتح واحترامه للمسيحيين ومعابدهم .
في ظل هذه الحقائق التي هي غيظ من فيض يستوجب من ضميرنا الإنساني وانتمائنا الأصيل ألّا نحمل مزيداً من الظلم على الأقل تجاه أنفسنا .
إن اهداف الغرب في عالمنا الإسلامي والعربي واضحة وضوح الشمس ولا نحتاج الى شهادة حسن سلوك ومقاييس للتحضّر، ومجازر الفرنسيين بحق الجزائريين ما زالت شاهدة، والجماجم المخزّنة في متحف "الإنسان" في باريس للأبرياء من الشعب الجزائري أكثر من التي أُعيدت، ومن أصل 14000 مسجد في المغرب العربي لم يبق إلا 800 مسجد.
وهنا في بلادنا، لا زالت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بأذرعها المختلفة تتفنّن في انتهاك حرمة المساجد والمقابر التي لا تُعد ولا تُحصى وعلى رأسها الانتهاك السافر لحرمة المسجد الأقصى المبارك، ونحن نشهد على ذلك، وكم في القلب من حسرة على غيرة هؤلاء على آيا صوفيا بينما تغيب هذه الغيرة عند بعضنا على انتهاك مقابرنا ومقدساتنا .
أما على صعيدنا نحن هنا في الداخل الفلسطيني، فإن قرار المحكمة التركية بما يخص أيا صوفيا، يجب ألا يكون مدعاة لإيذاء وحدتنا الوطنية والتمسك بثوابتنا وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، بل هو إنذار لسلطات الاحتلال أن الحقوق حتماً ستعود ولو طال عليها الزمن، وتحتّم علينا أمانة الإنصاف أن نقرأ القرار بهذا السياق ولا نكلف أنفسنا وزر الخوض في أمور قد تخرق سفينة صمودنا عن مسارها.