بقلم البروفيسور إبرهيم أبوجابر

نائب رئيس حزب الوفاء والإصلاح

 

الثابت والمتغيّر في النظام العالمي

بعد جائحة الكورونا

قُدّر للعالم تجرّع سمّ وباء الكورونا بعدما تفشّى بسرعة في جميع أرجاء المعمورة، مخلّفًا عشرات آلاف الضحايا، وأكثر من مليون مصاب حتى الساعة، فيما يشبه هزّة أرضية بدرجة عالية وفق مقياس رباني عجز عن وصفه دهاقنة العلم وعن استشرافه فطاحلة السياسة والفكر.

إن هذا الوباء – طاعون العصر- يذكّر بما حلّ بالعالم عام 1918 مع انتهاء الحرب العالمية الأولى من وباء "الإنفلونزا الإسبانية"، الذي حصد حينها أرواح مئات ملايين البشر، وكان له عظيم الأثر على مستوى موازين القوى والفاعلين الدوليين، محدثًا أزمات سياسية واقتصادية مهدّت لاندلاع أكبر حرب في تاريخ البشرية، الحرب العالمية الثانية، ومحدثًا أيضًا هزّة سياسية قوية على مستوى السياسة الدولية، ودافعًا نحو التأسيس لنظام عالمي جديد.

يمر العالم اليوم بمرحلة دقيقة جدًا، يشوبها الترقّب والريبة مما هو آت في قابل الأيام، فالتجارب التاريخية توحي بحتميّة التغيير، وهذا ما هو متوقّع، ويُقرأ من خلال ما يشوب العالم من تخبّط وتوجّس لدى دوائر صنع القرار في الدول الكبرى تحديدا. هذا التغيير لا يمكن حصر حجمه ولا مداه، وهل سيكون فوريًا أم مرحليًا، أو على المدى البعيد كما هو الحال بالمقارنة مع أحداث عالمية سابقة دوّنها التاريخ.

إن التغيير الموصوف سالفًا والذي لا يجزم أحد بنوعه ولا حدوثه، لأن بعضًا من مظاهر النظام العالمي الحالي ستبقى لا محالة قائمة، كالهيمنة الأمريكية، والتبعية العربية، وتهميش القضية الفلسطينية والهرولة للتطبيع مع المؤسسة الإسرائيلية، وإن نظّر البعض لتغييرات مدوّية على الساحة الدولية. إن القراءة المتأنية والتوظيف الصحيح والواقعي للوسائل المعرفية، تجعل المرء قادرًا على استشراف مستقبل العالم، ولو بالمقدار النسبي، على شكل مقاربة منطقية وعقلانية مبنية على قاعدة التغيّير الكونية، فمن لا يتطوّر ينقرض، وهذا يتوقع حصوله بعدما يزول خطر وباء الكورونا.

يتوقع المراقبون حدوث جملة من التغيّرات على الساحة الدولية في المرحلة التالية لوباء الكورونا، يتلخص بعضها في التالي:

أولا، تشكُّل نظام عالمي جديد وارد في الحسبان، تكون فيه الصين لاعبًا مركزيًا، إلى جانب بعض الفاعلين الدوليين الآخرين، على شكل نواة لكتلة دولية منافسة للولايات المتحدة الأمريكية ومحورها من الدول الأوروبية، وعودة العالم إلى سياسة الثنائية القطبية. هذا الطرح وارد ولكن لا يمكن الجزم به لأنه رهين حسابات سياسية واستراتيجية لدى الصين، فصحيح أن نجم الصين قد سطع في العقود الأخيرة إلا أنهم يخطّطون بهدوء مستخدمين أساليب ناعمة غير مثيرة لأمريكا ومن يدور في فلكها، غير ناسين جوار الأولى لروسيا أيضًا.

ثانيا، تعاظم قوة الصين اقتصاديًا، وغزوه للأسواق العالمية بقوة أمر غير بعيد، بخاصة أسواق الغرب الرأسمالي والصناعي، وهذا يعني كسب الصين لجولة الحرب الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وإرغام واشنطن على الانسحاب من بعض المراكز التجارية التابعة لها بالذات في الشرق الأوسط وأفريقيا لصالح الاستثمار والسلع الصينية. 

إن الدارس لمشروع طريق الحرير(بالمناسبة طريق الحرير هو مشروع صيني يحمل اسم الحزام والطريق على غرار طريق الحرير القديم هدفه ربط الصين بالعالم من خلال إقامة بنية تحتية من طرق سريعة وسكك حديدية  وبحرية إضافة إلى استثمارات صينية هائلة في الأقطار التي يشملها المشروع) البري والبحري تحديدًا، يدرك مغزاه على المدى البعيد، والخدمات الجليلة التي ستجنيها الصين منه سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي والاستراتيجي. فمشروع طريق الحرير سيربط الصين بثلاث قارات هي آسيا، أوروبا وأفريقياعلى الأقل، مما سيمكّنها مستقبلًا من فرض هيمنتها على الوحدات السياسية "الدول" فيها، وهذا يزعج واشنطن يقينا، ولعل جائحة الكورونا، وتعافي الصين سريعا منها خلاف الولايات المتحدة سجّل نقطة لصالح بكين.

ثالثا، انحسار النهج الليبرالي الرأسمالي وتراجعه بعدما هيمن حوالي ثلاثة عقود على العالم، فارضًا لسياساته بناءً على قاعدة الترغيب والترهيب، والغزو العسكري، وإثارة النزاعات والصراعات، وبثّ روح الفوضى في العالم بخاصة العالمين العربي والإسلامي وفق قاعدة "فَرِّق تَسُد". لقد ساد نهج التوحّش وعاد الاستعمار بثوب جديد، مدعيًا نيّته بثّ روح الحرية والديمقراطية واقتصاديات السوق، في حين لم تجن شعوب الأرض من جرّائه إلا مزيدًا من التغوّل والهيمنة، وابتزازا وسلبا لإراداتها. إن تغيّر هذا الواقع إن تم، فسيغدو عامل بعث للهمم بداية، ولكنه قد يكون محفّزًا لغزو من نوع آخر قد لا يكون هذا المرة غربيًا بل شرقيًا.

رابعا، يُتوقع تراجع العولمة الثقافية التي انطلقت مع انفراط عقد المعسكر الشرقي وميلاد النظام العالمي الجديد مطلع تسعينات القرن العشرين، وتفرُّد الولايات المتحدة بزعامة العالم فيما يُعرف بأحادية القطبية.

لقد حملت العولمة التي نظّر لها بعض المفكرين الأمريكيين أمثال صموئيل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما وغيرهما، ثقافة المنتصر حضاريا وثقافيا، بعدما صنّفت الحضارات الأخرى ،وعلى رأسها الحضارة الإسلامية والهندية والصينية، على أنها المنافسة للحضارة الغربية ، مما سرّع في نشر ثقافة الفوضى الأخلاقية والعلمانية والإباحية، والدعوة إلى الشذوذ والانحراف، ووصف الأديان بالسّرديّات المتخلّفة والاسطورية، دونما نكران ما تحمل من جوانب إيجابية علمية ومعرفية للعالم.

خامسا، قد تشكّل رافعة قوية للفكر والعمل الإسلامي على مستوى العالم من شرقه إالى غربه، فقد بان للجميع كيف تعاطت أنظمة وشعوب الأرض مع المسلمين والجاليات الإسلامية المقيمة على أراضيها، على شكل دعوات للمسلمين بالدعاء وإقامة الصلوات في الميادين العامة، والسماح برفع الأذان عبر مكبرات الصوت والتكفّل بافتتاح مساجد. هذا التحوّل في النهج العالمي المتحامل على المسلمين ووصفهم بالإرهابين، وارتكاب المجازر الجماعية في حقهم، إن استمر، فلربما يخفّف معاناة ملايين المسلمين من وحشية أنظمة وعصابات إجرام، وتنهي عصرًا ساد فيه مبدأ الإسلاموفوبيا المضلّل.

وأخيرا فإن العالم لن يعود إلى سابق عهده كما كان، أي ما قبل هذا الوباء، وسيشهد حالة من التغيير النسبي على المدى القريب أو البعيد، تطال جوانب معيّنة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واستمرار بعض من مظاهر النظام الحالي يقينًا، وهذه التغييرات ستؤسس..

لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية وموازين القوى.